-A +A
غسان بادكوك
سألني صديقي بدافع الفضول!: هل ستشارك في الانتخابات البلدية؟، أجبته: ربما، مضيفا بأنني لم أقرر بعد، قطب حاجبيه وأبدى استغرابه!، فاستطردت حديثي قائلا: إن عدم اتخاذي قرارا نهائيا حتى اليوم بالمشاركة في الانتخابات، ليس بسبب عدم إدراكي لأهمية العملية الانتخابية، وإنما لأنني أحتاج للمزيد من الوقت للتفكير في الأمر؛ لأن مشاركتي في الانتخابات الماضية لم تأت بالنتيجة التي كنت أتوقعها، وإنما جاءت بمجلس (منتخب) خضع نوعا ما لسلطة وتوجيه أمانة المدينة التي أقيم فيها؛ بدلا عن العكس!، وأضفت مستدركا: ولكن ظروف انعقاد الانتخابات هذه المرة هي أفضل بكثير مقارنة بالدورتين السابقتين، وهذا ما قد يرجح مشاركتي يوم الاقتراع.
ويبدو أن ما سيشجعني على الإدلاء بصوتي في المرحلة الأخيرة للانتخابات والتي ستنعقد في الأول من شهر ربيع الأول القادم، هو التطوير الملموس على نظام المجالس البلدية الذي يتم تطبيقه لأول مرة في الدورة الحالية، وعلى الرغم من بعض الملاحظات عليه، إلا أنها لا تقلّل من الجهد المبذول في تطويره، حيث سيتيح للمواطنين فرصة انتخاب مجلس بلدي يتمتع بسلطات فعلية، ستمكّنه من إحداث التغيير المطلوب على الإدارة المحلية، الأمر الذي سيجعل المجالس البلدية القادمة أكثر قوة وتأثيرا في تحقيق تطلعات المواطنين، وربما ترقى إلى مستوى كفاءة أول انتخابات (أهلية) جرت في البلاد بمكة المكرمة في عهد الملك المؤسس طيب الله ثراه في عام 1924م.

ويعود سبب ترددي حتى الآن إلى الرغبة في التأكّد من أن صوتي سيكون مسموعا ومؤثرا في إدارة مدينتي، والمشاركة (الحقيقية) في تقرير شؤونها، وإقرار مشروعاتها، وترتيب أولوياتها، ومعالجة مشاكلها؛ (التي سأتطرق لبعضها لاحقا في نهاية المقال)، وذلك من خلال انتخاب مجلس بلدي (حقيقي)؛ ستكون له للمرة الأولى شخصية اعتبارية، واستقلال مالي وإداري؛ يتمتع أعضاؤه بالصلاحيات اللازمة لتقرير الشؤون البلدية، وبالتالي فلن يكون لهم عذر في حالة التقصير، كما أن إعادة انتخابهم مستقبلا سيرتهن بإنجازات المجلس، ومدى تحقيقه لتطلعات أهالي الدائرة الذين انتخبوهم؛ لأن قرارات المجلس تؤثر حتما على نوعية حياتهم، وتتقاطع مع احتياجاتهم؛ كل يوم.
والأكيد هو أن نظام المجالس البلدية الجديد قد تلافى معظم الثغرات التي كانت في النسخة السابقة منه، بعد أن أدخلت عليه تعديلات جيدة؛ طالت الشكل والمضمون، ومنعت بموجبها رؤساء البلديات من رئاسة المجالس (بحكم مناصبهم)؛ وذلك خلافا للدورتين السابقتين، ولكن ما يشغلني حاليا بشأن الانتخابات هو عدم وضوح بعض تعديلات النظام، والتي من أهمها (مضمونا) إعطاء المجالس سلطتي (التقرير) و(المراقبة)، لأن النظام لم يوضح بشكل كاف طبيعة (التقرير) ولا حدودها، كما لم يحد من صلاحيات وسلطات المسؤول البلدي الأول؛ الذي يمكن لقراراته، تفريغ فكرة المشاركة الشعبية من مضمونها، وتحويلها إلى ممارسة شكلية، وهو ما قد يعرقل أو يحد من تمكين المجالس من القيام بدورها بالشكل المأمول.
وبالإضافة للتعديلات الموضوعية، شهد النظام الجديد للانتخابات مستجدات (نوعية) مهمة؛ منها تخفيض سن الناخبين إلى 18 سنة، وزيادة نسبة الأعضاء المنتخبين في المجالس إلى الثلثين، في حين يعتبر فتح باب المشاركة لأول مرة أمام المرأة للترشح والانتخاب، هو خطوة هامة؛ تعكس فهما عميقا ورغبة حكومية في زيادة دور المرأة في الحياة العامة، ومع ذلك تظل فكرة سيطرة أمانات المدن والبلديات على الشأن البلدي، هي هاجس؛ لن يبدده سوى منح المزيد من الصلاحيات (القوية) للمجالس المنتخبة، ورفع درجة وعي الناخبين بالممارسة الانتخابية لدى الناس؛ حتى لا يكون فيها مجال للولاءات القبلية والمناطقية والطائفية والأسرية، وإنما للمصلحة العامة؛ ولا شيء غيرها.
ولتوضيح النقطة السابقة أشير إلى أن نظام الانتخابات البلدية الجديد ينص في مادته الرابعة على اختصاص (المجلس) بتنفيذ المشروعات البلدية المعتمدة في الميزانية، ولكنه لم يشر صراحة إلى أن المجلس هو بمثابة سلطة تنفيذية (مرجعية) للبلديات، أو أن له (الكلمة الأخيرة) في حالة اختلاف وجهات النظر مع أمانات المدن وبلدياتها حول أولوية المشاريع، أو جدواها، وتكلفتها، في حين تشير المادة السابعة إلى اختصاص (المجلس) بدراسة بعض الموضوعات الهامة مثل المخططات الهيكلية والسكنية، ومشروعات نزع الملكية، وشروط البناء، ولكن هذه الصلاحية لا تصل لحد إقرارها وإنما دراستها ورفعها للجهات المختصة.
ولو أردت إيراد المنغّصات (البلدية) التي نعاني منها كل يوم، فهي كثيرة جدا، ولكن سأكتفي ببعض الأمثلة الواضحة التالية، حيث بحّت حناجر سكان جدة مثلا من كثرة المطالبات الموجهة للبلدية بضرورة التنسيق مع المرور لوضح حل دائم و(عملي) لازدحام طريق الملك وطريق المدينة؛ ولكن لا حياة لمن تنادي!، أيضا لا نعرف سبب تغيير أرصفة الطرقات مؤخرا بأخرى جديدة لا تختلف كثيرا عن القديمة!، في حين كان يمكن توجيه ميزانيتها لمشاريع أكثر أهمية مثل تعميم واستبدال أعمدة الإنارة التي تعمل بالكهرباء التقليدية، بأعمدة تعمل بالطاقة الشمسية، وفي حين يستمر مسلسل سقوط الضحايا في حفر الصرف الصحي، لم نلمس جهودا فعلية (تقودها الأمانة) لاستبدال الأغطية المتهالكة بأخرى محكمة الإغلاق؛ كالتي تتواجد في كثير من مدن العالم! كما يتساءل المواطنون عن مبررات استمرار منع بناء العمائر السكنية متعددة الأدوار في المخططات الشمالية للمدينة بدلا عن اشتراط بناء الفلل محدودة الاستيعاب، وهو ما يحد كثيرا من استخدامات الأراضي (الشحيحة) أصلا والمرتفعة الثمن، ويقلل المعروض من الشقق السكنية، ويرفع من أسعارها؛ سواء للتمليك أو الإيجار!.
ومن أجل الأسباب السابقة وغيرها الكثير، فإنني أتطلع إلى المزيد من التطوير على نظام الانتخابات البلدية، إلى الحد الذي يسمح بإعطاء المجالس البلدية الحق في ترشيح رئيس البلدية؛ سواء من أعضائها أو من غيرهم، وذلك أسوة بأعضاء مجالس إدارات الشركات المساهمة؛ الذين يختارون أحدهم رئيسا، على أن يتم الرفع بأسماء المرشحين إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية، لتقوم بدورها باعتماد الترشيح.
لو حدث ذلك فسيكون الأمناء ورؤساء البلديات أكثر قدرة على التفاعل مع مطالب السكان، وأحرص على تسهيل حياتهم لا زيادة تعقيدها، راجيا أن تسير العملية الانتخابية وفق ما هو مخطط لها، وأن تحقق الأهداف العليا التي استهدفها المشرّع، وفي مقدمتها تعميق المشاركة الشعبية (الفعلية) في الإدارة المحلية، وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم انفراد أمانات المدن وبلدياتها بإدارة الشأن البلدي، ووقف أوجه التقاعس واللامبالاة البلدية التي تؤثر على مصالح المواطنين بشكل مباشر.